إذا كنت من مُريدي السفر إلى عواصم دول العالم للاسترخاء وقضاء وقتاً ترفيهياً وللتعرف على ثقافات ولغات الشعوب مثل القلاع وأماكن أخرى، فإن الأمر سيتطلب منك بالتأكيد الانتظار طويلاً أمام بواباتها لإظهار جواز سفرك للدخول.
أما إذا كنت راغباً في زيارة العاصمة المصرية”القاهرة” فإنه عليك فقط أن تدق على أجراس أبوابها وأسوارها الحصينة المشيدة حولها منذ أكثر من ألف عام وما زالت قائمة حتى وقتنا هذا، لتفتح لك بواباتها الحديدية وتدخلك إلى عالم المدينة الفاطمي الساحر، لزيارة قصور ومساجد الخلفاء الفاطميين، والتنزه داخل شوارعها وبواباتها القديمة في جو سيجمعك بين عبق الماضي ونسيم الحاضر.
فلكل باب من أبواب عاصمة المعز لدين الله الفاطمي “القاهرة” سحراً تاريخياً وجمالياً يحكي أسرار المدينة الفاطمية وحكاياتها الشعبية والتاريخية،
فهي ليست مجرد أبواب بناها أول خلفاء الدولة الفاطمية في مصر المعز لدين الله الفاطمي، وأنما بوابات تاريخية تحمل بين طيات جدرانها حكايات التاريخ وتروي سيرة الحروب التي قادتها “القاهرة” عاصمة العالم العربي وقتها من دول المغرب إلى الشام.
فلا يخلو سور المدينة التاريخي المحاط حولها من أبواب شرقية وغربية لحمايتها، فمنذ أن أرسل المعز لدين الله الفاطمي جيشاً من مدينة القيروان لفتح مصر بقيادة قائده جوهر الصقلي، قام ببناء مدينة القاهرة واتخذها عاصمة للخلافة الفاطمية،
وأحاطها بسوراً ضخماً من طوب اللبن لحمايتها من هجمات العدو الشرسة، وبنى على هذا السور بوابات مصر الحصينة ومازالت قائمة إلى اليوم، وقد يكون من أهمها باب زويلة، باب النصر، باب الفتوح، باب المحروق، وباب السعادة.
باب الفتوح.. بوابة مصر الغربية القلعة
عند النظر للوهلة الأولى إلى باب الفتوح أحد أعظم وأضخم بوابات القاهرة الحصينة والذي يعد المدخل المباشر إلى شارع المعز لدين الله الفاطمي ستظنه قلعة حربية قائمة بذاتها، أو واجهة قصراً لأحد الخلفاء الفاطميين،
وستتعجب كثيراً عندما تعلم أنه فقط أحد أبواب مصر التاريخية التي دافعت عنها على مر العصور ضد هجمات الغزاة، فما بالك وقتها إذا دخلت شارع المعز ذاته وشهدت قصور ومساجد الخلفاء الفاطميين التي ملئت ساحات وأرجاء القاهرة الفاطمية بتصميمتها المعمارية الخلابة والجذابة والتي تزين أرجاء شوارع القاهرة إلى الآن.
وبمجرد الوقوف طويلاً أمام الباب الفاطمي والتمعن إلى جدرانه الضخمة وأسواره العليا، وثكناته الحربية المزودة بالمزاغل لرمي السهام، والخندق الحربي المحفور أمام سور المدينة بقصد صد هجمات العدو،
ستشعر كأنك أمام مشهداً حربي حاضراً أمامك، وستشعر بالهيبة والعظمة تملئ مشاعرك ووجدانك، وستمتلك رغبة شديدة لتعرف تاريخ الباب العريق والحكايات التي ارتبطت به، ومن دخله قديماً وحاول من خلاله اقتحام المدينة الفاطمية طمعاً في ثرائها وكنوزها، وعما كان يحدث قديماً أمام ووراء الباب وإلى اليوم.
الحكاية في القلعة
فحكاية باب الفتوح الحصين بدأت عام 480ه-1087م عندما عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي إلى وزيره بدر الجمالي بتجديد سور القاهرة بعد أن تهدم أجزاء منه جراء هجوم القرامطة عليه، فاستعان بثلاثة أخوة مهندسين من مدينة الرها بشمال العراق لتجديد سور المدينة الضخم المحيط حولها، وبناء بابي النصر والفتوح في موضعهما الحالي وربطهما ببعض بسور يربط بينهم وبطرق داخلية سرية.
وقد كانت الحكمة من بناء بابي الفتوح والنصر لتخرج الجيوش من باب الفتوح، وتدخل وهي منتصرة من باب النصر المجاور له، ولك أن تذهب بخيالك وقتها إلى العصر الإسلامي عندما كانت تخرج الجيوش العربية الغفيرة من عاصمة المعز من خلال بابها الحصين رافعة أعلامها وشعاراتها الإسلامية، ولا تعود إلا وهي منتصرة من خلال بابها “باب النصر”.
تحصينات حربية في القلعة
وأما إذا تجولت حول وداخل باب الفتوح نفسه ستجده قد حمل بين طيات جدرانه ملامح العمارة الحربية في عهد الخلفاء الفاطميين، فتصميم الباب الفاطمي يدلك على كل ما كان وقتها من أدوات وتدابير حربية محصنة لحماية أرض الكنانة،
فقد صمم الباب على شكل برجين مستديرين حمل كلاً منهما غرفة حربية خاصة به مزودة بالمزاغل لرمي السهام من خلالها على العدو القادم من الخارج، واستخدمت لتخزين الأسلحة والعتاد وكثكنات للجنود، ويربط بين البرجين المستديرين ممراً مكشوفاً يصل بين بابي الفتوح والنصر ماراً بسور القاهرة، ليكون بابي الفتوح والنصر بسور المدينة جبهة حربية موحدة.
أما السور المكشوف الذي يربط بين البرجين فقد زود بعدد من الشرفات لتكون نقط مراقبة ترصد التحركات القادمة، ويذكر المؤرخون أن الجنود المصريين قد استخدموا هذه الشرفات لسكب الزيت المغلي على جنود الحملة الفرنسية على مصر عندما حاولوا اقتحام باب الفتوح.
توقيعات الحملة الفرنسية
وعلى الرغم أن باب الفتوح بُني بغرض حربي لتحصين قاهرة المعز في القلعة، إلا أن الباب والبرجين لا يخلوان من الزخارف الإسلامية والمعمارية على مدخل البوابة وحول مزاغل السهام على أشكال معينات ودوائر ونقوش نباتية وفستونات تعيدك إلى حضارة العصر الإسلامي القديم.
ووقع قادة الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت أسمائهم فوق جدران الباب، مما يظهر لك انبهارهم واعجابهم بتصميم الباب الفريد، فضلاً عن استخدامهم له فيما بعد لتحصين جيوشهم، ويؤكد لك في ذات الوقت على أن بناة الباب قد رغبوا في صناعة باباً حربياً وتاريخياً فريداً ينبهر به زائري المدينة الفاطمية من السائحين الأجانب، ويفتخر به أهالي شارع المعز لأنه جزء من تاريخ مدينتهم في القلعة.
جولة سياحية في القلعة
ويمكن للزائر الأجنبي أن يدخل إلى باب الفتوح بصحبة المرشدين السياحيين داخل المنطقة الأثرية للتجول داخل الغرف الحربية الخاصة به، ومشاهدة أثار العمارة الحربية الإسلامية من خلال المدخل الخلفي للبوابة، حيث يتم الصعود إليه من خلال سلالم خارجية بنيت من الحجر الضخم المستخدم في بناء القلاع الحربية، والذي لا يتحمل مشقة صعوده إلا رجال أقوياء البنية من جيوش الدول الفاطمية في القلعة.
قاعة الحكمة
و بمجرد دخول الباب ستجده يتكون من مجموعة غرف صغيرة ودهاليز تصلك إلى الحجرتين الأساسيتين بالبرجين، ويربط بين الحجرتين أنفسهم سراديب وممرات داخلية تصلك إلى قاعة واسعة أطلق عليها وقتها “قاعة الحكمة”
فقد خصصت تلك القاعة للخليفة الفاطمي ليجتمع بداخلها مع قادته من الجيش لوضع الخطط الحربية ومناقشة أمور الدولة، وكان يتم بها إعدام المفسدين ومثري الفتنة داخل الدولة وسط تجمع قيادات ومشايخ الدولة في القلعة.
شارع المعز في القلعة
ومن خلال سلالم ودهاليز الباب الداخلية يمكنك الصعود إلى سطح الباب من أعلى لمشاهدة شارع المعز بأكمله، ومشاهدة المساجد الفاطمية بمأذانها القببية العالية، والقصور المزدانة بالشبابيك الأرابيسك الخشبية، والقهاوي الشعبية وحركة المارة بالشارع، ومحلات النحاسين وبيع المشغولات والانتيكات الفرعونية الفريدة.
ومن اللافت للنظر إلى أن سور باب الفتوح قد ارتبط بسور جامع الخليفة الحاكم بأمر الله المجاور له مباشرة، فعندما قام بدر الجمالي بترميم سور باب الفتوح ضم سور جامع الخليفة إلى سور القاهرة،
حيث يمكنك من خلال التجول فوق سور باب الفتوح الدخول إلى سور جامع الخليفة الحاكم بأمر الله ومشاهدة ساحة الجامع الفسيحة المبلطة بالرخام الخالص وإيوانات المصلى المزينة بستائر حريرية، ويطير فوق ساحة الجامع سرب من الحمام البري، وكأنك تشاهد قصراً ملكياً ذو تراث إسلامي خاص ينفرد به باب الفتوح وحده بالاطلاع عليه.
بوابات القلعة
أما بوابة باب الفتوح الحديدة والتي مازالت قائمة إلى الآن منذ العصر الفاطمي فقد شيدت من بابين خشبين ضخمين وحولهما أشرطة حديدية، والتي تطلب ستة رجال أقوياء لغلقها وفتحها لضخامة حجمها وصلابتها،
وقد اتسمت البوابة بالعرض والعمق الشديد لتعبر من خلالها الجيوش الغفيرة قديماً ويمر بها أحفاد شارع المعز حديثاً، وعند النظر إليها ستجدها قد انعكس عليها ملامح الماضي الحربي العريق منذ أكثر من ألف سنة، فعند إغلاق أبواب الباب ووضع الجنازير عليه، ترتطم أبوابها بعضها ببعض في صيحة عالية ليشعر ساكني وآمني قاهرة المعز بأن الهدوء والأمان قد حل عليهما.
روايات عالمية عن القلعة
ولكل باب من أبواب المعز حكايات وقصص شعبية ارتبطت بها كجزء من تراث المدينة الفاطمي الأصيل، والذي يرويه أهالي شارع المعز على مقاهيها الشعبية وبداخل طرقتها ودروبها، وتتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيلاً، وعلى أثر هذه الحكايات قد خرج منها العديد من القصص والأمثلة الشعبية،
وجسدها أدباء مصر العملاقة في روايات أدبية وأفلام سينمائية جسدت الحالة الفاطمية التي تعيشها المدينة والتي تخرج من أعماق جدرانها وأزقة شوارعها العتيقة، ومن أشهر الروايات: رواية “أولاد حارتنا” والأفلام السينمائية”قصر الشوق”، و”بين القصرين” للأديب العالمي نجيب محفوظ التي جسدت حكايات شارع المعز وأبوابه، والعلاقات الطيبة بين أبناء الشارع.
فتوة المعز في القلعة
ومن أشهر الحكايات التي ارتبط بها باب الفتوح في القلعة والتي ترويه الأهالي كجزء من تراثهم الشعبي، حكاية ضريح “حسن الذوق” المدفون في المدخل الشرقي لباب الفتوح، حيث يروى أنه كان هناك فتوة حكيم وذو شأن بين المواطنين في شارع المعز اسمه حسن الذوق،
فعندما كان يحدث مشاكل بين الأهالي داخل شارع المعز كان يتدخل لحلها وينهي هذه الخلافات، إلا أنه في إحدى المرات تدخل لإنهاء أحد المشاجرات بين عائلتين ورفضوا التصالح فيما بينهم، فخرج غاضباً وتوعد بترك أحياء القاهرة، وقبل أن يخرج من “باب الفتوح” لفظ أنفاسه الأخيرة، وأقيم ضريحه بجوار مدخل باب الفتوح، ومن يومها تخليداً لموقفه وذكراه يضرب المصريين مثلهم الشعبي الشهير “الذوق مخرجش من مصر” في حالة حدث أي خلاف بين شخصين من الممكن أن يؤدي إلي شجار عميق، لتهدئة الموقف ذات بينهم.
موكب فاطمي
وقد ارتبط باب الفتوح قديماً باحتفالات وأعياد المصريين الإسلامية، فكان عندما تأتي الأعياد كان الخليفة الحاكم يقوم بتزيين باب الفتوح، ويأمر بذبح العجول أمام الباب وتوزيع لحومها على الفقراء والمحتاجين من أجل إكرام المصريين.
وكان موكب الخليفة الفاطمي الرسمي يبدأ من باب الفتوح ليمر بشارع المعز، وكان جيوشه يصطفون على جانبي الباب للهتاف باسمه واستقباله.
وكانت أهم الحروب التي شنتها الخلافة الفاطمية والتي خرجت من باب الفتوح حروبهم ضد الغزو الصليبي على البلدان الإسلامية، وحروبهم ضد القرامطة في بلاد الشام، ومحاولتهم السيطرة على بلاد الحجاز لكنها باءت بالفشل.